فصل: تفسير الآية رقم (100):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (94- 99):

{وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99)}
قوله تعالى: {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ} أي خرجت منطلقة من مصر إلى الشام، يقال: فصل فصولا، وفصلته فصلا، فهو لازم ومتعد. {قالَ أَبُوهُمْ} أي قال لمن حضر من قرابته ممن لم يخرج إلى مصر وهم ولد ولده: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ}. وقد يحتمل أن يكون خرج بعض بنيه، فقال لمن بقي: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ}. قال ابن عباس: هاجت ريح فحملت ريح قميص يوسف إليه، وبينهما مسيرة ثمان ليال.
وقال الحسن: مسيرة عشر ليال، وعنه أيضا مسيرة شهر.
وقال مالك بن أنس رضي الله عنه: إنما أوصل ريحه من أوصل عرش بلقيس قبل أن يرتد إلى سليمان عليه السلام طرفه.
وقال مجاهد: هبت ريح فصفقت القميص فراحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب، فوجد ريح الجنة فعلم أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص، فعند ذلك قال: {إِنِّي لَأَجِدُ} أي أشم، فهو وجود بحاسة الشم. {لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ} قال ابن عباس ومجاهد: لولا أن تسفهون، ومنه قول النابغة:
إلا سليمان إذ قال المليك له ** قم في البرية فاحددها عن الفند

أي عن السفه.
وقال سعيد بن جبير والضحاك: لولا أن تكذبون. والفند الكذب. وقد أفند إفنادا كذب، ومنه قول الشاعر:
هل في افتخار الكريم من أود ** أم هل لقول الصدوق من فند

أي من كذب.
وقيل: لولا أن تقبحون، قاله أبو عمرو، والتفنيد التقبيح، قال الشاعر:
يا صاحبي دعا لومي وتفنيدي ** فليس ما فات من أمري بمردود

وقال ابن الأعرابي: {لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ} لولا أن تضعفوا رأي، وقاله ابن إسحاق. والفند ضعف الرأي من كبر. وقول رابع: تضللون، قاله أبو عبيدة.
وقال الأخفش: تلوموني، والتفنيد اللوم وتضعيف الرأي.
وقال الحسن وقتادة ومجاهد أيضا: تهرمون، وكله متقارب المعنى، وهو راجع إلى التعجيز وتضعيف الرأي، يقال: فنده تفنيدا إذا أعجزه، كما قال:
أهلكني باللوم والتفنيد

ويقال: أفند إذا تكلم بالخطإ، والفند الخطأ في الكلام والرأي، كما قال النابغة:
... فاحددها عن الفند

أي أمنعها عن الفساد في العقل، ومن ذلك قيل: اللوم تفنيد، قال الشاعر:
يا عاذلي دعا الملام وأقصرا ** طال الهوى وأطلتما التفنيدا

ويقال: أفند فلانا الدهر إذا أفسده، ومنه قول ابن مقبل:
دع الدهر يفعل ما أراد فإنه ** إذا كلف الإفناد بالناس أفندا

قوله تعالى: {قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} أي لفي ذهاب عن طريق الصواب.
وقال ابن عباس وابن زيد: لفي خطئك الماضي من حب يوسف لا تنساه.
وقال سعيد بن جبير: لفي جنونك القديم. قال الحسن: وهذا عقوق.
وقال قتادة وسفيان: لفي محبتك القديمة.
وقيل: إنما قالوا هذا، لأن يوسف عندهم كان قد مات.
وقيل: إن الذي قال له ذلك من بقي معه من ولده ولم يكن عندهم الخبر.
وقيل: قال له ذلك من كان معه من أهله وقرابته.
وقيل: بنو بنيه وكانوا صغارا، فالله أعلم. قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ} أي على عينيه. {فَارْتَدَّ بَصِيراً} {أَنْ} زائدة، والبشير قيل هو شمعون.
وقيل: يهوذا قال: أنا أذهب بالقميص اليوم كما ذهبت به ملطخا بالدم، قاله ابن عباس. وعن السدي أنه قال لإخوته: قد علمتم أني ذهبت إليه بقميص الترحة فدعوني أذهب إليه بقميص الفرحة.
وقال يحيى بن يمان عن سفيان: لما جاء البشير إلى يعقوب قال له: على أي دين تركت يوسف؟ قال: على الإسلام، قال: الآن تمت النعمة، وقال الحسن: لما ورد البشير على يعقوب لم يجد عنده شيئا يثيبه به، فقال: والله ما أصبت عندنا شيئا، وما خبزنا شيئا منذ سبع ليال، ولكن هون الله عليك سكرات الموت. قلت: وهذا الدعاء من أعظم ما يكون من الجوائز، وأفضل العطايا والذخائر. ودلت هذه الآية على جواز البذل والهبات عند البشائر.
وفي الباب حديث كعب بن مالك- الطويل- وفيه: «فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته» وذكر الحديث، وقد تقدم بكماله في قصة الثلاثة الذين خلفوا، وكسوة كعب ثوبيه للبشير مع كونه ليس له غيرهما دليل على جواز مثل ذلك إذا ارتجى حصول ما يستبشر به. وهو دليل على جواز إظهار الفرح بعد زوال الغم والترح. ومن هذا الباب جواز حذاقة الصبيان، وإطعام الطعام فيها، وقد نحر عمر بعد حفظه سورة البقرة جزورا. والله أعلم. قوله تعالى: {قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ} ذكرهم قوله: {إنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ} [يوسف: 86]. قوله تعالى: {قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ} في الكلام حذف، التقدير: فلما رجعوا من مصر قالوا يا أبانا، وهذا يدل على أن الذي قال له: {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} بنو بنيه أو غيرهم من قرابته واهلة لا ولده، فإنهم كانوا غيبا، وكان يكون ذلك زيادة في العقوق. والله أعلم. وإنما سألوه المغفرة، لأنهم أدخلوا عليه من ألم الحزن ما لم يسقط المأثم عنه إلا بإحلاله. قلت: وهذا الحكم ثابت فيمن آذى مسلما في نفسه أو ماله أو غير ذلك ظالما له، فإنه يجب عليه أن يتحلل له ويخبره بالمظلمة وقدرها، وهل ينفعه التحليل المطلق أم لا؟ فيه خلاف، والصحيح أنه لا ينفع، فإنه لو أخبره بمظلمة لها قدر وبال ربما لم تطب نفس المظلوم في التحلل منها. والله أعلم.
وفي صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة قال قال رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه» قال المهلب فقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أخذ منه بقدر مظلمته» يجب أن تكون المظلمة معلومة القدر مشارا إليها مبينة، والله أعلم. قوله تعالى: {قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} قال ابن عباس: أخر دعاءه إلى السحر.
وقال المثنى بن الصباح عن طاوس قال: سحر ليلة الجمعة، ووافق ذلك ليلة عاشوراء.
وفي دعاء الحفظ- من كتاب الترمذي- عن ابن عباس أنه قال: بينما نحن عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ جاءه علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- فقال:- بأبي أنت وأمي- تفلت هذا القرآن من صدري، فما أجدني أقدر عليه، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أفلا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن وينفع بهن من علمته ويثبت ما تعلمت في صدرك قال: أجل يا رسول الله! فعلمني، قال: إذا كان ليلة الجمعة فإن استطعت أن تقوم في ثلث الليل الآخر فإنها ساعة مشهودة والدعاء فيها مستجاب وقد قال أخي يعقوب لبنيه {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} يقول حتى تأتي ليلة الجمعة» وذكر الحديث.
وقال أيوب بن أبى تميمة السختياني عن سعيد بن جبير قال: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} في الليالي البيض، في الثالثة عشرة، والرابعة عشرة، والخامسة عشرة فإن الدعاء فيها مستجاب. وعن عامر الشعبي قال: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} أي أسأل يوسف إن عفا عنكم استغفرت لكم ربي، وذكر سنيد بن داود قال: حدثنا هشيم قال حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن محارب بن دثار عن عمه قال: كنت آتي المسجد في السحر فأمر بدار ابن مسعود فأسمعه يقول: اللهم إنك أمرتني فأطعت، ودعوتني فأجبت، وهذا سحر فاغفر لي، فلقيت ابن مسعود فقلت: كلمات أسمعك تقولهن في السحر فقال: إن يعقوب أخر بنيه إلى السحر بقوله: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي}. قوله تعالى: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ} أي قصرا كان له هناك. {آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} قيل: إن يوسف بعث مع البشير مائتي راحلة وجهازا، وسأل يعقوب أن يأتيه بأهله وولده جميعا، فلما دخلوا عليه آوى إليه أبويه، أي ضم، ويعني بأبويه أباه وخالته، وكانت أمه قد ماتت في ولادة أخيه بنيامين.
وقيل: أحيا الله له أمه تحقيقا للرؤيا حتى سجدت له، قاله الحسن، وقد تقدم في البقرة أن الله تعالى أحيا لنبيه عليه السلام أباه وأمه فآمنا به. قوله تعالى: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} قال ابن جريج: أي سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله، قال: وهذا من تقديم القرآن وتأخيره، قال النحاس: يذهب ابن جريج إلى أنهم قد دخلوا مصر فكيف يقول: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ}.
وقيل: إنما قال: {إِنْ شاءَ اللَّهُ} تبركا وجزما. {آمِنِينَ} من القحط، أو من فرعون، وكانوا لا يدخلونها إلا بجوازه.

.تفسير الآية رقم (100):

{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)}
قوله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} قال قتادة: يريد السرير، وقد تقدمت محامله، قد يعبر بالعرش عن الملك والملك نفسه، ومنه قول النابغة الذبياني:
عروش تفانوا بعد عزّ وأمنة

وقد تقدم. قوله تعالى: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً}. فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً} الهاء في {خَرُّوا لَهُ} قيل: إنها تعود على الله تعالى، المعنى: وخروا شكرا لله سجدا، ويوسف كالقبلة لتحقيق روياه، وروي عن الحسن، قال النقاش: وهذا خطأ، والهاء راجعة إلى يوسف لقوله تعالى في أول السورة: {رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ} [يوسف: 4]. وكان تحيتهم أن يسجد الوضيع للشريف، والصغير للكبير، سجد يعقوب وخالته وإخوته ليوسف عليه السلام، فاقشعر جلده وقال: {هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ} وكان بين رؤيا يوسف وبين تأويلها اثنتان وعشرون سنة.
وقال سلمان الفارسي وعبد الله بن شداد: أربعون سنة، قال عبد الله بن شداد: وذلك أخر ما تبطئ الرؤيا.
وقال قتادة: خمس وثلاثون سنة.
وقال السدي وسعيد بن جبير وعكرمة: ست وثلاثون سنة.
وقال الحسن وجسر بن فرقد وفضيل ابن عياض: ثمانون سنة.
وقال وهب بن منبه: ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة، وغاب عن أبيه ثمانين سنة، وعاش بعد أن التقى بأبيه ثلاثا وعشرين سنة، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة.
وفي التوراة مائة وست وعشرون سنة. وولد ليوسف من امرأة العزيز إفراثيم ومنشأ ورحمة امرأة أيوب. وبين يوسف وموسى أربعمائة سنة.
وقيل: إن يعقوب بقي عند يوسف عشرين سنة، ثم توفي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقيل: أقام عنده ثماني عشرة سنة.
وقال بعض المحدثين: بعضا وأربعين سنة، وكان بين يعقوب ويوسف ثلاث وثلاثون سنة حتى جمعهم الله.
وقال ابن إسحاق: ثماني عشرة سنة، والله أعلم.
الثاني- قال سعيد بن جبير عن قتادة عن الحسن: في قوله: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً}- قال: لم يكن سجودا، لكنه سنة كانت فيهم، يومئون برءوسهم إيماء، كذلك كانت تحيتهم.
وقال الثوري والضحاك وغيرهما: كان سجودا كالسجود المعهود عندنا، وهو كان تحيتهم.
وقيل: كان انحناء كالركوع، ولم يكن خرورا على الأرض، وهكذا كان سلامهم بالتكفي والانحناء، وقد نسخ الله ذلك كله في شرعنا، وجعل الكلام بدلا عن الانحناء. وأجمع المفسرون أن ذلك السجود على أي وجه كان فإنما كان تحية لا عبادة، قال قتادة: هذه كانت تحية الملوك عندهم، وأعطى الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة. قلت: هذا الانحناء والتكفي الذي نسخ عنا قد صار عادة بالديار المصرية، وعند العجم، وكذلك قيام بعضهم إلى بعض، حتى أن أحدهم إذا لم يقم له وجد في نفسه كأنه لا يؤبه به، وأنه لا قدر له، وكذلك إذا التقوا انحنى بعضهم لبعض، عادة مستمرة، ووراثة مستقرة لا سيما عند التقاء الأمراء والرؤساء. نكبوا عن السنن، وأعرضوا عن السنن.
وروى أنس بن مالك قال: قلنا يا رسول الله أينحني بعضنا إلى بعض إذا التقينا؟ قال: «لا»، قلنا: أفيعتنق بعضنا بعضا؟ قال«لا». قلنا: أفيصافح بعضنا بعضا؟ قال«نعم». خرجه أبو عمر في التمهيد فإن قيل: فقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «قوموا إلى سيدكم وخيركم»- يعني سعد بن معاذ- قلنا: ذلك مخصوص بسعد لما تقتضيه الحال المعينة، وقد قيل: إنما كان قيامهم لينزلوه عن الحمار، وأيضا فإنه يجوز للرجل الكبير إذا لم يؤثر ذلك في نفسه، فإن أثر فيه وأعجب به وراي لنفسه حظا لم يجز عونه على ذلك، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من سره أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار». وجاء عن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أنه لم يكن وجه أكرم عليهم من وجه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما كانوا يقومون له إذا رأوه، لما يعرفون من كراهته لذلك.
الثالثة: فإن قيل: فما تقول في الإشارة بالإصبع؟ قيل له: ذلك جائز إذا بعد عنك، لتعين له به وقت السلام، فإن كان دانيا فلا، وقد قيل بالمنع في القرب والبعد، لما جاء عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «من تشبه بغيرنا فليس منا». وقال: «لا تسلموا تسليم اليهود والنصارى فإن تسليم اليهود بالأكف والنصارى بالإشارة». وإذا سلم فإنه لا ينحني، ولا أن يقبل مع السلام يده، ولأن الانحناء على معنى التواضع لا ينبغي إلا لله. وأما تقبيل اليد فإنه من فعل الأعاجم، ولا يتبعون على أفعالهم التي أحدثوها تعظيما منهم لكبرائهم، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لا تقوموا عند رأسي كما تقوم الأعاجم عند رءوس أكاسرتها» فهذا مثله. ولا بأس بالمصافحة، فقد صافح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعفر بن أبي طالب حين قدم من الحبشة، وأمر بها، وندب إليها، وقال: «تصافحوا يذهب الغل» وروى غالب التمار عن الشعبي أن أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا إذا التقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفر تعانقوا، فإن قيل: فقد كره مالك المصافحة؟ قلنا: روى ابن وهب عن مالك أنه كره المصافحة والمعانقة، وذهب إلى هذا سحنون وغيره من أصحابنا، وقد روي عن مالك خلاف ذلك من جواز المصافحة، وهو الذي يدل عليه معنى ما في الموطأ، وعلى جواز المصافحة جماعة العلماء من السلف والخلف. قال ابن العربي: إنما كره مالك المصافحة لأنه لم يرها أمرا عاما في الدين، ولا منقولا نقل السلام، ولو كانت منه لاستوى معه. قلت: قد جاء في المصافحة حديث يدل على الترغيب فيها، والدأب عليها والمحافظة، وهو ما رواه البراء بن عازب قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي فقلت: يا رسول الله! أن كنت لأحسب أن المصافحة للأعاجم؟ فقال: «نحن أحق بالمصافحة منهم مأمن مسلمين يلتقيان فيأخذ أحدهما بيد صاحبه مودة بينهما ونصيحة إلا ألقيت ذنوبها بينهما».
قوله تعالى: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} ولم يقل من الجب استعمالا للكرم، لئلا يذكر إخوته صنيعهم بعد عفوه عنهم بقوله: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ}. قلت: وهذا هو الأصل عند مشايخ الصوفية: ذكر الجفا في وقت الصفا جفا، وهو قول صحيح دل عليه الكتاب.
وقيل: لأن في دخول السجن كان باختياره بقوله: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33] وكان في الجب بإرادة الله تعالى له.
وقيل: لأنه كان في السجن مع اللصوص والعصاة، وفي الجب مع الله تعالى، وأيضا فإن المنة في النجاة من السجن كانت أكبر، لأنه دخله بسبب أمرهم به، وأيضا دخله باختياره إذ قال: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ} فكان الكرب فيه أكثر، وقال فيه أيضا: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] فعوقب فيه. {وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} يروى أن مسكن يعقوب كان بأرض كنعان، وكانوا أهل مواش وبرية، وقيل: كان يعقوب تحول إلى بادية وسكنها، وأن الله لم يبعث نبيا من أهل البادية.
وقيل: إنه كان خرج إلى بدا، وهو موضع، وإياه عني جميل بقوله:
وأنت التي حببت شغبا إلى بدا ** إلي وأوطاني بلاد سواهما

وليعقوب بهذا الموضع مسجد تحت جبل. يقال: بدا القوم بدوا إذا أتوا بدا، كما يقال: غاروا غورا أي أتوا الغور، والمعنى: وجاء بكم من مكان بدا، ذكره القشيري، وحكاه الماوردي عن الضحاك عن ابن عباس. {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} بإيقاع الحسد، قاله ابن عباس.
وقيل: أفسد ما بيني وبين إخوتي، أحال ذنبهم على الشيطان تكرما منه. {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ} أي رفيق بعباده.
وقال الخطابي: اللطيف هو البر بعباده الذي يلطف بهم من حيث لا يعلمون، ويسبب لهم مصالحهم من حيث لا يحتسبون، كقوله: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ} [الشورى: 19].
وقيل: اللطيف العالم بدقائق الأمور، والمراد هنا الإكرام والرفق. قال قتادة، لطف بيوسف بإخراجه من السجن، وجاءه بأهله من البدو، ونزع عن قلبه نزغ الشيطان. ويروى أن يعقوب لما قدم بأهله وولده وشارف أرض مصر وبلغ ذلك يوسف أستأذن فرعون- واسمه الريان- أن يأذن له في تلقي أبيه يعقوب، وأخبره قدومه فأذن له، وأمر الملا من أصحابه بالركوب معه، فخرج يوسف والملك معه في أربعة آلاف من الأمراء مع كل أمير خلق الله أعلم بهم، وركب أهل مصر معهم يتلقون يعقوب، فكان يعقوب يمشي متكئا على يد يهوذا، فنظر يعقوب إلى الخيل والناس والعساكر فقال: يا يهوذا! هذا فرعون مصر؟ قال: لا، بل هذا ابنك يوسف، فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه ذهب يوسف ليبدأه بالسلام فمنع من ذلك، وكان يعقوب أحق بذلك منه وأفضل، فابتدأ يعقوب بالسلام فقال: السلام عليك يا مذهب الأحزان، وبكى وبكى معه يوسف، فبكى يعقوب فرحا، وبكى يوسف لما رأى بأبيه من الحزن، قال ابن عباس: فالبكاء أربعة، بكاء من الخوف، وبكاء من الجزع، وبكاء من الفرح، وبكاء رياء. ثم قال يعقوب: الحمد لله الذي أقر عيني بعد الهموم والأحزان، ودخل مصر في اثنين وثمانين من أهل بيته، فلم يخرجوا من مصر حتى بلغوا ستمائة ألف ونيف ألف، وقطعوا البحر مع موسى عليه السلام، رواه عكرمة عن ابن عباس. وحكى ابن مسعود أنهم دخلوا مصر وهم ثلاثة وتسعون إنسانا ما بين رجل وامرأة، وخرجوا مع موسى وهم ستمائة ألف وسبعون ألفا.
وقال الربيع بن خيثم: دخلوها وهم اثنان وسبعون ألفا، وخرجوا مع موسى وهم ستمائة ألف.
وقال وهب: بن منبه دخل يعقوب وولده مصر وهم تسعون إنسانا ما بين رجل وامرأة وصغير، وخرجوا منها مع موسى فرارا من فرعون، وهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضع وسبعون رجل مقاتلين، سوى الذرية والهرمى والزمنى، وكانت الذرية ألف ألف ومائتي ألف سوى المقاتلة، وقال أهل التواريخ: أقام يعقوب بمصر أربعا وعشرين سنة في أغبط حال ونعمة، ومات بمصر، وأوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفنه عند أبيه إسحاق بالشام ففعل، ثم انصرف إلى مصر. قال سعيد بن جبير: نقل يعقوب صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تابوت من ساج إلى بيت المقدس، ووافق ذلك يوم مات عيصو، فدفنا في قبر واحد، فمن ثم تنقل اليهود موتاهم إلى بيت المقدس، من فعل ذلك منهم، وولد يعقوب وعيصو في بطن واحد، ودفنا في قبر واحد وكان عمرهما جميعا مائة وسبعا وأربعين سنة.